كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ثم أتبع سببًا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قومًا لا يكادون يفقهون قولا قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجًا على أن تجعل بيننا وبينهم سدًا قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردمًا آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارًا قال آتوني أفرغ عليه قطرًا فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقًا}.
ونحن لا نستطيع أن نجزم بشيء عن المكان الذي بلغ إليه ذو القرنين {بين السدين} ولا ما هما هذان السدان. كل ما يؤخذ من النص أنه وصل إلى منطقة بين حاجزين طبيعيين، أو بين سدين صناعيين.
تفصلهما فجوة أو ممر. فوجد هنالك قومًا متخلفين: {لا يكاد يفقهون قولًا}.
وعندما وجدوا فاتحًا قويًا، وتوسموا فيه القدرة والصلاح.. عرضوا عليه أن يقيم لهم سدًا في وجه يأجوج ومأجوج الذين يهاجمونهم من وراء الحاجزين، ويغيرون عليهم من ذلك الممر، فيعيثون في أرضهم فسادًا؛ ولا يقدرون هم على دفعهم وصدهم.. وذلك في مقابل خراج من المال يجمعونه له من بينهم.
وتبعًا للمنهج الصالح الذي أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض فقد رد عليهم عرضهم الذي عرضوه من المال؛ وتطوع بإقامة السد؛ ورأى أن أيسر طريقة لإقامته هي ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين؛ فطلب إلى أولئك القوم المتخلفين أن يعينوه بقوتهم المادية والعضلية: {فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردمًا آتوني زبر الحديد}.. فجمعوا له قطع الحديد، وكومها في الفتحة بين الحاحزين، فأصبحا كأنهما صدفتان تغلفان ذلك الكوم بينهما. {حتى إذا ساوى بين الصدفين} وأصبح الركام بمساواة القمتين {قال انفخوا} على النار لتسخين الحديد {حتى إذا جعله نارًا} كله لشدة توهجه واحمراره {قال آتوني أفرغ عليه قطرًا} أي نحاسًا مذابًا يتخلل الحديد، ويختلط به فيزيده صلابه.
وقد استخدمت هذه الطريقة حديثًا في تقوية الحديد؛ فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته. وكان هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين، وسجله في كتابه الخالد سبقًا للعلم البشري الحديث بقرون لا يعلم عددها إلا الله.
بذلك التحم الحاجزان، وأغلق الطريق على يأجوج ومأجوج {فما اسطاعوا أن يظهروه} ويتسوروه {وما استطاعوا له نقبًا} فينفذوا منه. وتعذر عليهم أن يهاجموا أولئك القوم الضعاف المتخلفين. فأمنوا واطمأنوا.
ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به، فلم يأخذه البطر والغرور، ولم تسكره نشوة القوة والعلم. ولكنه ذكر الله فشكره. ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه. وتبرأ من قوته إلى قوة الله، وفوض إليه الأمر، وأعلن ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك قبل يوم القيامة، فتعود الأرض سطحًا أجرد مستويًا.
{قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقًا}.. وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين. النموذج الطيب للحاكم الصالح، يمكنه الله في الأرض، وييسر له الأسباب؛ فيجتاح الأرض شرقًا وغربًا؛ ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر، ولا يطغى ولا يتبطر، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق؛ ولا يسخر أهلها في أغراضه وأطماعه.. إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به، ويساعد المتخلفين، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل؛ ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعبير والإصلاح، ودفع العدوان وإحقاق الحق.
ثم يرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله، ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته، وأنه راجع إلى الله.
وبعد فمن يأجوج ومأجوج؟ وأين هم الآن؟ وماذا كان من أمرهم وماذا سيكون!
كل هذه أسئلة تصعب الإجابة عليها على وجه التحقيق، فنحن لا نعرف عنهم إلا ما ورد في القرآن، وفي بعض الأثر الصحيح.
والقرآن يذكر في هذا الموضع ما حكاه من قول ذي القرنين: {فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقًا}.
وهذا النص لا يحدد زمانًا. ووعد الله بمعنى وعده بدك السد ربما يكون قد جاء منذ أن هجم التتار، وانساحوا في الأرض، ودمروا الممالك تدميرًا.
وفي موضع آخر في سورة الأنبياء: {حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق} وهذا النص كذلك لا يحدد زمانا معينًا لخروج يأجوج ومأجوج فاقتراب الوعد بمعنى اقتراب الساعة قد وقع منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فجاء في القرآن: {اقتربت الساعة وانشق القمر} والزمان في الحساب الإلهي غيره في حساب البشر. فقد تمر بين اقتراب الساعة ووقوعها ملايين السنين أو القرون، يراها البشر طويلة مديدة، وهي عند الله ومضة قصيرة.
وإذن فمن الجائز أن يكون السد قد فتح في الفترة ما بين: {اقتربت الساعة} ويومنا هذا. وتكون غارات المغول والتتار التي اجتاحت الشرق هي انسياح يأجوج ومأجوج.
وهنالك حديث صحيح رواه الإمام أحمد عن سفيان الثوري عن عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن أمها حبيبة، عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «استيقظ الرسول صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر الوجه وهو يقول: ويل للعرب من شر قد اقتربت. فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا. وحلق بإصبعيه السبابة والإبهام. قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبيث».
وقد كانت الرؤيا منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا ونصف قرن. وقد وقعت غارات التتار بعدها، ودمرت ملك العرب بتدمير الخلافة العباسية على يد هولاكو في خلافة المستعصم آخر ملوك العباسيين. وقد يكون هذا تعبير رؤيا الرسول- صلى الله عليه وسلم- وعلم ذلك عند الله. وكل ما نقوله ترجيح لا يقين.
ثم نعود إلى سياق السورة. فنجده يعقب على ذكر ذي القرنين للوعد الحق بمشهد من مشاهد القيامة.
{وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضًا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا}.
وهو مشهد يرسم حركة الجموع البشرية من كل لون وجنس وأرض. ومن كل جيل وزمان وعصر، مبعوثين منشرين. يختلطون ويضطربون في غير نظام وفي غير انتباه، تتدافع جموعهم تدافع الموج وتختلط اختلاط الموج.. ثم إذا نفخة التجمع والنظام: {ونفخ في الصُّور فجمعناهم جمعا} فإذا هم في الصف في نظام! ثم إذا الكافرون الذين أعرضوا عن ذكر الله حتى لكأن على عيونهم غطاء، ولكأن في أسماعهم صممًا.. إذا بهؤلاء تعرض عليهم جهنم فلا يعرضون عنها كما كانوا يعرضون عن ذكر الله. فما يستطيعون اليوم إعراضًا. لقد نزع الغطاء عن عيونهم نزعًا فرأوا عاقبة الإعراض والعمى جزاء وفاقًا!
والتعبير ينسق بين الإعراض والعرض متقابلين في المشهد، متقابلين في الحركة على طريقة التناسق الفني في القرآن. ويعقب على هذا التقابل بالتهكم اللاذع والسخرية المريرة: {أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا}.. أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا مخلوقات الله المستعبدة له انصارًا لهم من دونه، ينصرونهم منه ويدفعون عنهم سلطانه؟ إذن فليلقوا عاقبة هذا الحسبان: {إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا}.. ويا له من نزل مهيأ للاستقبال، لا يحتاج إلى جهد ولا انتظار. فهو حاضر ينتظر النزلاء الكفار!
ثم تختم السورة بالإيقاعات الأخيرة، تلخص خطوطها الكثيرة، وتجمع إيقاعاتها المتفرقة:
فأما الإيقاع الأول فهو الإيقاع حول القيم والموازين كما هي في عرف الضالين، وكما هي على وجه اليقين.. قيم الأعمال وقيم الأشخاص..
{قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا}.
{قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا} الذين لا يوجد من هم أشد منهم خسرانًا؟ {الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا} فلم يؤد بهم إلى الهدى، ولم ينته بهم إلى ثمرة أو غاية: {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} لأنهم من الغفلة بحيث لا يشعرون بضلال سعيهم وذهابه سدى، فهم ماضون في هذا السعي الخائب الضال، ينفقون حياتهم فيه هدرًا.. قل هل ننبئكم من هم هؤلاء؟
وعندما يبلغ من استتارة التطلع والانتظار إلى هذا الحد يكشف عنهم فإذا هم: {أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم}.. وأصل الحبوط هو انتفاخ بطن الدابة حين تتغذى بنوع سام من الكلأ ثم تلقى حتفها.. وهو أنسب شيء لوصف الأعمال.. إنها تنتفخ وأصحابها يظنونها صالحة ناجحة رابحة.. ثم تنتهي إلى البوار! {أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم}.. {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا}.. فهم مهملون، لا قيمة لهم ولا وزن في ميزان القيم الصحيحة {يوم القيامة}.
ولهم بعد ذلك جزاؤهم: {ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا}. ويتم التعاون في المشهد بعرض كفة المؤمنين في الميزان وقيمتهم: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا}.. وهذا النزل في جنات الفردوس في مقابل ذلك النزل في نار جهنم. وشتان شتان!
ثم هذه اللفتة الدقيقة العميقة إلى طبيعة النفس البشرية وإحساسها بالمتاع في قوله: {لا يبغون عنها حولا}.. وهي تحتاج منا إلى وقفة بإزاء ما فيها من عمق ودقة.. إنهم خالدون في جنات الفردوس.. ولكن النفس البشرية حوَّل قلب. تمل الاطراد، وتسأم البقاء على حال واحدة أو مكان واحد؛ وإذا اطمأنت على النعيم من التغير والنفاد فقدت حرصها عليه. وإذا مضى على وتيرة واحدة فقد تسأمه. بل قد تنتهي إلى الضيق به؛ والرغبة في الفرار منه!
هذه هي الفطرة التي فطر عليها الأنسان لحكمة عليا تناسب خلافته للأرض، ودوره في هذه الخلافة. فهذا الدور يقتضي تحوير الحياة وتطويرها حتى تبلغ الكمال المقدر لها في علم الله. ومن ثم ركز في الفطرة البشرية حب التغيير والتبديل؛ وحب الكشف والاستطلاع، وحب الانتقال من حال إلى حال، ومن مكان إلى مكان، ومن مشهد إلى مشهد، ومن نظام إلى نظام.. وذلك كي يندفع الإنسان في طريقه، يغير في واقع الحياة، ويكشف عن مجاهل الأرض؛ ويبدع في نظم المجتمع وفي أشكال المادة.. ومن وراء التغير والكشف والإبداع ترتقي الحياة وتتطور؛ وتصل شيئًا فشيئًا إلى الكمال المقدر لها في علم الله.
نعم إنه مركوز في الفطرة كذلك ألفة القديم، والتعلق بالمألوف، والمحافظة على العادة. ولكن ذلك كله بدرجة لا تشل عملية التطور والإبداع، ولا تعوق الحياة عن الرقي والارتفاع. ولا تنتهي بالأفكار والأوضاع إلى الجمود والركود. إنما هي المقاومة التي تضمن التوازن مع الاندفاع. وكلما اختل التوازن فغلب الجمود في بيئة من البيئات انبعثت الثورة التي تدفع بالعجلة دفعة قوية قد تتجاوز حدود الاعتدال. وخير الفترات هي فترات التعادل بين قوتي الدفع والجذب، والتوازن بين الدوافع والضوابط في جهاز الحياة.
فأما إذا غلب الركود والجمود. فهو الإعلان بانحسار دوافع الحياة، وهو الإيذان بالموت في حياة الأفراد والجماعات سواء.
هذه هي الفطرة المناسبة لخلافة الإنسان في الأرض. فأما في الجنة وهي دار الكمال المطلق.. فإن هذه الفطرة لا تقابلها وظيفة. ولو بقيت النفس بفطرة الأرض، وعاشت في هذا النعيم المقيم الذي لا تخشى عليه النفاد، ولا تتحول هي عنه، ولا يتحول هو عنها لانقلب النعيم جحيمًا لهذه النفس بعد فترة من الزمان؛ ولأصبحت الجنة سجنًا لنزلائها يودون لو يغادرونه فترة، ولو إلى الجحيم، ليرضوا نزعة التغير والتبديل!
ولكن بارئ هذه النفس وهو أعلم بها يحول رغباتها، فلا تعود تبغي التحول عن الجنة، وذلك في مقابل الخلود الذي لا تحول له ولا نفاد!
وأما الإيقاع الثاني فيصور العلم البشري المحدود بالقياس إلى العلم الإلهي الذي ليست له حدود؛ ويقربه إلى تصور البشر القاصر بمثال محسوس على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير.
{قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددًا}..
والبحر أوسع وأغزر ما يعرفه البشر، والبشر يكتبون بالمداد كل ما يكتبون؛ وكل ما يسجلون به علمهم الذي يعتقدون أنه غزير!
فالسياق يعرض لهم البحر بسعته وغزارته في صورة مداد يكتبون به كلمات الله الدالة على علمه؛ فإذا البحر ينفد وكلمات الله لا تنفد. ثم إذا هو يمدهم ببحر آخر مثله، ثم إذا البحر الآخر ينفد كذلك وكلمات الله تنتظر المداد!
وبهذا التصوير المحسوس والحركة المجسمة يقرب إلى التصور البشري المحدود معنى غير المحدود، ونسبة المحدود إليه مهما عظم واتسع.
والمعنى الكلي المجرد يظل حائرًا في التصور البشري ومائعًا حتى يتمثل في صورة محسوسة. ومهما أوتي العقل البشري من القدرة على التجريد فإنه يظل في حاجة إلى تمثل المعنى المجرد في صور وأشكال وخصائص ونماذج.. ذلك شأنه مع المعاني المجردة التي تمثل المحدود، فكيف بغير المحدود؟